تتفاقم الشكوى يومًا بعد يوم، من كثرة المشكلات والأزمات التي تعاني منها الأسرة المسلمة، وتقود في كثير من الأحيان إلى إنفصامِ عرا الزوجيّة، وما ينجم عنه من آثار وسلبيّات، وإن لم يصل الأمر إلى هذا الحدّ، فإنّ الأسرة تدخل تحت رحى، تدور حول مطالب الدنيا، وتكدح وراءها، وتصبح لا همّ لها فيما سوى ذلك، ولا هدف أسمى يشغلها، ويوجّه طاقاتها!
فأين يكمن الخلل يا ترى؟! ومن المسئول عن هذا الإنتكاس الذي يبدّد آمالاً عريضة سامية، ويهدر جهود عقود من التربية، في سنة أو بضعة أشهر، كانت شغلاً وأملاً، ثمّ أصبحت غبشًا وسرابًا مضمحلاًّ، عدا عمّا ينجم عن ذلك من آثار نفسيّة أسريّة وإجتماعيّة بعيدة المدى؟! تتراكم يومًا بعد يوم، لتكون رصيدًا رديئًا لما بعدها، وما هو أسوأ منها..
أهو نوع من الصراع بين الأجيال كما يقولون؟ يجعل الجيل الجديد يصطرع مع سلفه، ولا يتقبّل توجيهه ونصحه، بل يسعى فيما يظنّ، ليزيحه عن سدّة السيطرة والتحكّم، ويملك زمام الأمور دونه؟ أم هو إختلاف الأمزجة، وتناكر الأرواح؟ أم هو الخلل في التربية، وتباين الأخلاق، يحمل صاحبه على سوء الخلق، وضعف القدرة على التكيّف والتعايش، والتحقّق بالحكمة وبعد النظر؟ أم الخلل في التربية أنّها كانت تجنح إلى مثاليّة حالمة، فعندما اصطدمت بالواقع غلبها، وهزم رؤاها؟!
وأيًّا ما كان الأمر، فالمشكلة واقع تئنّ منه حياتنا الأسريّة والإجتماعيّة، وهي ذات أوجه مختلفة، ومظاهر متعدّدة، ولعلّ من أبرز أوجهها: رفض التعايش بين الحماة وكنّتها، ومظاهر القطيعة والتدابر، التي تنكب بها كثير من الأسر الموسومة بالتمسّك بالدين، والحرص على إقامة أحكامه..
لقد أصبحت فكرة التعايش بين الحماة وكنّتها، وبخاصّة في بيت واحد، أو في بيت فيه نوع من الإشتراك مرفوضةً مستهجنة، بصورة لا تقبل أيّ مراجعة أو حوار.. ولماذا؟ التعليلات متعدّدة، والنتيجة واحدة.. والثمرة المرّة هي القطيعة، أو ما يشبهها..
والعجب كلّ العجب أنّ العلاقة بين الأسرتين في مرحلة الخطوبة تكون ورديّة مشرقة، وثيقة متألّقة، فإذا تمّت الأمور على أحسن ما يكون في ظاهر الأمر، بدأت المشكلات التافهة تُحكِم خناقها على العلاقة بين الأطراف، حتّى تئول الأمور إلى أسوأ مآلاتها.. وصدق الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكنّ أخلاق الرجال تضيقُ
وفي كثير من الأحيان يتبع الرجال إملاءات النساء وآراءهنّ.. ثمّ ندّعي الإهتمام بمشكلات الشباب، وندعو إلى تيسير أسباب الزواج، وتخفيف الأعباء على الشباب.. ونحن نترك الشابّ وحده في معترك الحياة، وأمام رياح المادّيّة الهوج، ثمّ نلقي عليه باللائمة حين يخفق في مشروع زواجه، ولا نلوم الكبار، الذين يتحكّمون من وراء ستار، ويملكون التوجيه والتسديد، ويتمتّعون بالحكمة والخبرة، وهم يتحمّلون القسط الأكبر من المسئوليّة المادّيّة والأدبيّة..
ولو ذهبنا نفصّل أسباب هذه الظاهرة، لرأينا أنّها تعود إلى أسباب عديدة، ويمكن تحديد أهمّ أسبابها في النقاط التالية:
1= أنّ أكثر الأزواج شبابًا وفتيات يدخلون الحياة الزوجيّة، مستخفّين بأعبائها ومسئوليّاتها، ودون أن يقدّم لهم التأهيل المناسب، فيزجّ الزوج في معمعة المسئوليّة دون زاد من الوعي، أو رصيد من الخبرة والحكمة، أو سلاح من العلم وعتاد، أو فنّ من حسن العلاقة.. ثمّ هو لا يسعى إلى ذلك بنفسه، ولا يبحث عنه..
وتزجّ الزوجة في الحياة الزوجيّة، وهي لم تتأهّل لها أدنى التأهيل، ولعلّها تكون قد عاشت حياتها في بيت أهلها، ولها الكلمة الأولى والأخيرة، لا يردّ لها طلب، ولم تدرّب على حمل شيء من المسئوليّة.
وكما أنّ الإنسان عندَما يدخل الحياة العسكريّة يخضع لدورة تدريبيّة شديدة، تسمّى: دورة الأغرار، يراد منها نقله من لين الحياة المدنيّة ونعومتها إلى شدّة الحياة العسكريّة وبأسها، كذلك عندما ينتقل إلى الحياة الزوجيّة يحتاج إلى دورة تأهيليّة لدخول هذه الحياة الجديدة، وإتقان فنّ التعامل مع متطلّباتها، وحلّ مشكلاتها، وقد أصبحت الدورات التدريبيّة، والتأهيليّة والتطويريّة في كلّ علم وفنّ سمة هذا العصر، وأسلوب التعامل بين أهله، فأين فينا تلك المؤسّسة الإنسانيّة، التي تقوم بهذه المهمّة الجليلة، والأمنية الغالية.؟!
2= ما ترسّخ في أعماق الوعي الاجتماعيّ من موروث ظالم عن طبيعة العلاقة بين المرأة وحماتها وكنّتها، وكأنّ هذه العلاقة تستعصي على التربية، ولا تقبل شيئًا من التقويم والتهذيب، ويتبع ذلك رفض التعايش والمساكنة، فتغيب حكمة الرجال بعدما غابت التربية المثلى، وتبدأ الحياة الزوجيّة مشحونةً بالتوتّر مع أسرة الطرف الآخر، والحساسيّة المفرطة من كلّ موقف.
3= الخلل في التربية على حمل رسالة الحق، والغيرة على قيمه وحرماته، ووضوح الأهداف الإسلاميّة في الحياة، ولاشكّ أن من لم يتربّ هذه التربية، رجلاً كان أو امرأة، فستنزع به نفسه نحو الإهتمامات الصغيرة التافهة من التعلّق بالدنيا، والتفاخر بها، والتنافس فيها، وإقتصار التفكير والهمّة عليها، وضيق النظر، والتعصّب لتوافه الأمور.
4= نزوع حياتنا الإجتماعيّة نحو ثقافة الإستهلاك، والتوسّع في الكماليّات، وحصر الهمّة بها، وعدّها من ضرورات الحياة المعاصرة، التي لا يمكن الإستغناء والتخلّي عنها.. وقد غطّى ذلك على الحقائق الجوهريّة التي هي لبّ حياة المسلم وعنوانها.
وفي مقابل ذلك غيبة الأخلاق والمفاهيم الإسلاميّة، من البرّ والتراحم، والإحسان والتعاون، وقد كانت تحكم حياة الناس وعلاقاتهم إلى عهد قريب.. فأصبح كلّ إنسان يواجه بنفسه مشكلات الحياة المتكاثرة، وأعباءها المادّيّة المتزايدة، ويتحمّل ضغوطها وحده، ويطالب بتقديم كلّ ما تقذف به عبقريّة التقنية إلى عالم الإستهلاك، فلا يرقّ له أقرب الناس إليه ولا يرحمه، ولا يجد حوله من يقف معه، ولا يعذره أحد إن قصّر في تلبية شيء من ذلك، ولم يسعفه الطول والسعة.
5= لقد أصبح الناس في مجتمعات اليوم محاطين بنماذج من السلوك المنمّط لا يستطيعون الفكاك منها، وهو ما أسمّيه: البرمجة الفرديّة والاجتماعيّة الصمّاء، وأعني بها الرضوخ بصورة آليّة عمياء إلى تيّار التقلّبات المتسارعة، ووهم العادات والتقاليد، التي تكبّل حياة الإنسان وفكره وسلوكه، وكثير منها تجافي شرع الله وهديه، ومع ذلك فهي مسلَّمات في نظر أكثر الناس، لا تقبل التجاهل أو المقاومة، فضلاً عن شيء من التمرّد، أو محاولة التغيير والتعديل، واختيار الصالح النافع..
*المخرج للأسرة المسلمة من هذه المآزق:
1) لابدّ من التخلّي عن النظرة الموروثة للأسرة، وهي أنّها شأن خاصّ، لا يعني إلاّ أفرَادَها ومن يلوذ بها، بصورة قريبة مباشرة، بل ينبغي أن ينظر إليها على أنّها مؤسّسة إجتماعيّة تربويّة، يهمّ أمرها كلّ عضو من أعضاء المجتمع، وبخاصّة في هذا العصر الذي غلبت فيه المادّيّة، وتكالبت قوى الشرّ على الأسرة المسلمة لزعزعة بنيانها، وتقويض أركانها، ولا يكسر شوكة هذه الهجمة إلاّ وقوف المؤمنين صفًّا واحدًا، وشعورهم بالمسئوليّة وتناصحهم، وتعاونهم على البرّ والتقوى..
وهذا يعني أنّ كلّ فرد في المجتمع يتحمّل- بحسب استطاعته- جزءًا من مسئوليّة نجاح كلّ أسرة فيه، وذلك انطلاقًا من مفهوم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر»، وما أشبه ذلك من النصوص الشرعيّة.!
والمسئوليّة عن الأسرة التي يتحمّلها كلّ فرد في المجتمع مسئوليّة مادّيّة وأدبيّة على حدّ سواء.. لا يمكن تجاهل إحداهما، ولا قيام للأسرة إلاّ بهما..
2- ثمّ على الشابّ المقبل على الزواج، وكذلك على الفتاة أن يجعلوا جزءًا من برنامج حياتهم الجديدة: أن يتعرّفوا على الناجحين والناجحات في بنَاء الأسرة، وتربية الأبناء، وحبّذا لو أنّهم أعدّوا أسئلة شاملة لمختلف جوانب الحياة الزوجيّة والأسريّة، وتعرّفُوا بدقّة على تجارِب هؤُلاء الناجحين وخبراتهم وتوجيهاتهم.
وأوّلُ الناجحين الذينَ ينبغي على الزوجين أن يطلبا خبرَتَهمَا، ويتطلّعا إلى تجاربهما في الحياة هما أسرة الطرفَينِ: فينبغي أن يتطلّع الزوج بهذا المنظار إلى أسرة زوجته، ويتعامل معهم كذلك، وأن تتطلّع الزوجة بهذا المنظار إلى أسرة زوجها، وتتعامل معهم كذلك، ويطلب كلّ واحدٍ منهما خبرة الطرف الآخر، وتجربته في الحياة بصدق.. وإنّ قلّة من الناس الذين لا تحجبهم شدّة القرب عن رؤية الإيجابيّات والانتفاع بها، والتغافل عن السلبيّات وتجاوزها، ولكنّ حرص المؤمن الصّادق على الخير يجعله يركّز نظره على الإيجابيّات دائمًا، ويحرص على الأخذ بها.
وغنيّ عن البيان أنّ ذلك لا يعني مصادرة رأي أيٍّ من الزوجين، ورغباته واجتهاده، ولكنّها استنارةٌ فكريّة، وتقدير واحترام، واعتراف عمليّ بفضل ذي الفضل ومنزلته وسبقه..
ولماذا نعدّ أسرة الطرفين أوّل الناجحين في التربية؟ لأنّ كلا الأسرتين قد رضيت بتربية الطرف الآخر، ولو بأدنى حدّ، ودفعها ذلك إلى الخطوبة أو الرضا بالخطوبة، فكان حقًّا على كلّ من الطرفين أن ينظر كما يقولون إلى الشطر المليء من الكأس، فيرى الإيجابيّات التي يقتنص منها جوانب التألّق والنجاح.
ولعلّ من أهمّ الأسئلة التي يمكن أن تطرح على أولئك الناجحين:
ما عوامل نجاحه في نظره؟ وما العقبات التي يحذّر منها؟ وبم كانت علاقته متميّزة على مستوى العلاقة الزوجيّة أو الأسريّة؟ وماذا يتمنّى أن يستدرك في حياته لو استقبل من أمره ما استدبر؟ وكيف تعامل مع الأزمات الماليّة؟ وكيف استطاع تجاوزها؟ وكيف ينظّم حياته؟ وما أولويّاته؟ وهل يتدخّل أهل زوجته في حياتهم؟ وكيف يتعامل معهم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة..
3- ولاشكّ أنّ المثاليّة في العلاقات الزوجيّة والأسريّة مطلب عسير المنال، ولكنّ الطموح إلى الكمالِ مطلب مهمّ، وديدن ذوي الهمم، وهو كفيل أن يرفعَ مستوى تلك العلاقات إلى نوع من المثاليّة الواقعيّة، التي تتعامل مع الواقع بإيجابيّة، وهي تتطلّع إلى الكمال وتنشده، ولا تستبعد الخطأ والضعْف والقصور، ولكنّها لا تيأس من إصلاحه، ولا تقف عنده، وتتقاصر دونه..
4- وأخيرًا على الشابّ والفتاة أيضًا ألاّ يظنّوا الحياة ساعات ورديّة من شهر العسل، تحلو بلا كدر، وتصفو بلا نكد، وينال المرء فيها كلّ ما يطلب ويتمنّى، فذاك ظنّ مجانب لطبيعة هذه الحياة، وهو سرعان ما تتبدّد أوهامه، وتنقشع سحب أحلامه، ويصطدم الواقفون معه بالحقائق، التي لا تقبل إلاّ الجدّ، ولا تغني عنها الأوهام، ولا تجدي.. فليوطّنوا أنفسهم على استقبال المشكلات بروح إيجابيّة، وعلى قدرها، وليقفوا معها وقفة واقعيّة، ليروا بعد ذلك أن ليس من مشكلة تستعصي على الحلّ وتتأبّى.
الكاتب: د. عبد المجيد البيانوني.
المصدر: مجلة لجينيات الإلكترونية.